فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

وقوله تعالى: {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} متعلق بما تعلق به {مِنْ} والبغي الظلم أو الحسد، و{بَيْنَهُمْ} متعلق بمحذوف صفة {بَغِيًّا} وفيه إشارة على ما أرى إلى أنّ هذا البغي قد باض وفرخ عندهم، فهو يحوم عليهم ويدور بينهم لا طمع له في غيرهم، ولا ملجأ له سواهم، وفيه إيذان بتمكنهم في ذلك وبلوغهم الغاية القصوى فيه وهو فائدة التوصيف بالظرف وقيل: أشار بذلك إلى أنّ البغي أمر مشترك بينهم وأنّ كلهم سفل، ومنشأ ذلك مزيد حرصهم في الدنيا وتكالبهم عليها. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} فالمعنى أن الدلائل إما سمعية وإما عقلية.
أما السمعية فقد حصلت بإيتاء الكتاب، وأما العقلية فقد حصلت بالبينات المتقدمة على إيتاء الكتاب فعند ذلك قد تمت البينات ولم يبق في العدول عذر ولا علة، فلو حصل الإعراض والعدول لم يكن ذلك إلا بحسب الحسد والبغي والحرص على طلب الدنيا، ونظيره هذه الآية قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة} [البينة: 4]. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {بغيًا بينهم} مفعول لأجله لاختلفوا، والبغي: الظلم وأصل البغي في كلام العرب الطلب، ثم شاع في طلب ما للغير بدون حق فصار بمعنى الظلم معنى ثانيًا وأطلق هنا على الحسد لأن الحسد ظلم.
والمعنى أن داعي الاختلاف هو التحاسد وقصد كل فريق تغليط الآخر فيحمل الشريعة غير محاملها ليفسد ما حملها عليه الآخر فيفسد كل فريق صواب غيره وأما خطؤه فأمره أظهر.
وقوله: {بينهم} متعلق بقوله: {بغيًا} للتنصيص على أن البغي بمعنى الحسد، وأنه ظلم في نفس الأمة وليس ظلمًا على عدوها. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما ذكر إنزال الكتاب وسببه ذكر ما تسبب عنه فقال عاطفًا على ما تقديره: فعموا عن البينات: {فهدى الله} في إسناده إلى الاسم الأعظم كما قال الحرالي إعلام بأنه ليس من طوق الخلق إلا بعون وتوفيق من الحق- انتهى. {الذين آمنوا} أي بالنبيين ببركة إيمانهم {لما اختلفوا} أي أهل الضلالة {فيه} ثم بينه بقوله: {من الحق} ويجوز أن تكون تبعيضية لما عموا عنه من الحق الذي نزل به الكتاب الذي جاء به النبيون {بإذنه} أي بما ارتضاه لهم من علمه وإرادته وتمكينه. قال الحرالي: فيه إشعار بما فطرهم عليه من التمكين لقبوله لأن الإذن أدناه التمكين وإزالة المنع- انتهى. {والله} أي المحيط علمًا وقدرة {يهدي من يشاء} أي بما له من أوصاف الكمال {إلى صراط مستقيم} قال الحرالي: هذا هدى أعلى من الأول كأن الأول هدى إلى إحاطة علم الله وقدرته وهذا هدى إليه، وفي صيغة المضارع بشرى لهذه الأمة بدوام هداهم إلى ختم اليوم المحمدي «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله» انتهى. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ} فاعلم أنه تعالى لما وصف حال أهل الكتاب وأنهم بعد كمال البينات أصروا على الكفر والجهل بسبب البغي والحسد بين أن حال هذه الأمة بخلاف حال أولئك فإن الله عصمهم عن الزلل وهداهم إلى الحق في الأشياء التي اختلف فيها أهل الكتاب، يروى أنه عليه الصلاة والسلام قال: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، ونحن أولى الناس دخولًا الجنة يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهدانا لله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا اليوم الذي هدانا له، والناس له فيه تبع وغدًا لليهود، وبعد غد للنصارى» قال ابن زيد: اختلفوا في القبلة فصلت اليهود إلي بيت المقدس والنصارى إلى المشرق، فهدانا الله للكعبة واختلفوا في الصيام، فهدانا الله لشهر رمضان، واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود: كان يهوديًا وقالت النصارى: كان نصرانيًا، فقلنا: إنه كان حنيفًا مسلمًا واختلفوا في عيسى، فاليهود فرطوا، والنصارى أفرطوا، وقلنا القول العدل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {فهدى الله الذين آمنوا} هذا العطف يحتمل أن الفاء عاطفة على {اختلف فيه} الذي تضمنته جملة القصر، قال ابن عرفة: عطف بالفاء إشارة إلى سرعة هدايته المؤمنين بعقب الاختلاف اه، يريد أنه تعقيب بحسب ما يناسب سرعة مثله وإلا فهدى المسلمين وقع بعد أزمان مضت، حتى تفاقم اختلاف اليهود واختلاف النصارى، وفيه بعد لا يخفى، فالظاهر عندي أن الفاء فصيحة لما علم من أن المقصود من الكلام السابق التحذير من الوقوع في الاختلاف ضرورة أن القرآن إنما نزل لهدي المسلمين للحق في كل ما اختلف فيه أهل الكتب السالفة فكأنَّ السامعَ ترقب العلم بعاقبة هذا الاختلاف فقيل: دامَ هذا الاختلاف إلى مجيء الإسلام فهدى الله الذين آمنوا إلخ، فقد أفصحت عن كلام مقدر وهو المعطوف عليه المحذوف كقوله تعالى: {اضرب بعصاك الحجر فانفجرت} [البقرة: 60]. اهـ.
قال ابن عاشور:
والإذن: الخطاب بإباحة فعل وأصله مشتق من فعل أذنَ إذا أصغى أُذُنه إلى كلام مَن يكلمه، ثم أطلق على الخطاب بإباحة فعل على طريقة المجاز بعلاقة اللزوم لأن الإصغاء إلى كلام المتكلم يستلزم الإقبال عليه وإجابةَ مطلبه، وشاع ذلك حتى صار الإذن أشْيَع في معنى الخطاب بإباحة الفعل، وبذلك صار لفظ الإذن قابلًا لأن يستعمل مجازًا في معان من مشابهات الخطاب بالإباحة، فأطلق في هذه الآية على التمكين من الاهتداء وتيسيره بما في الشرائع من بيان الهُدى والإرشاد إلى وسائل الاهتداء على وجه الاستعارة، لأن من ييسر لك شيئًا فكأنه أباح لك تناوله.
وفي هذا إيماء إلى أن الله بعث بالإسلام لإرجاع الناس إلى الحق وإلى التوحيد الذي كانوا عليه، أو لإرجاعهم إلى الحق الذي جاءت الرسل لتحصيله، فاختلف أتباعهم فيه بدلًا من أن يحققوا بأفهامهم مقاصد ما جاءت به رسلهم، فحصل بما في الإسلام من بيان القرآننِ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وضوحُ الحق والإرشاد إلى كيفية أخذه، فحصل بمجيء الإسلام إتمام مراد الله مما أنزل من الشرائع السالفة. اهـ.

.قال الفخر:

قوله تعالى: {بِإِذْنِهِ} فيه وجهان أحدها: قال الزجاج بعلمه.
الثاني: هداهم بأمره أي حصلت الهداية بسبب الأمر كما يقال: قطعت بالسكين، وذلك لأن الحق لم يكن متميزًا عن الباطل وبالأمر حصل التمييز فجعلت الهداية بسبب إذنه.
الثالث: قال بعضهم: لابد فيه من إضمار والتقدير: هداهم فاهتدوا بإذنه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} تذييل لبيان أن فضل الله يعطيه من يشاء، وهذا إجمال، وتفصيله أن حكمة الله اقتضت أن يتأخر تمام الهدى إلى وقت مجئ شريعة الإسلام لمَّا تهيأَ البشر بمجيء الشرائع السابقة لقبول هذه الشريعة الجامعة، فكانت الشرائع السابقة تمهيدًا وتهيئة لقبول دين الإسلام، ولذلك صدرت هذه الآية بقوله: {كان الناس أمة واحدة}، فكما كان البشر في أول أمره أمة واحدة على هدى بسيط ثم عرضت له الضلالات عند تحرك الأفكار البشرية، رجع البشر إلى دين واحد في حالة ارتقاء الأفكار، وهذا اتحاد عجيب، لأنه جاء بعد تشتت الآراء والمذاهب، ولذا قال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم}، وفي الحديث: «مَثَل المسلمين واليهود والنصارى كمثلِ رجلٍ استأْجَر قومًا يعملون له عملًا يومًا إلى الليل على أجر معلوم فعملوا له إلى نصف النهار فقالوا لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطتَ لنا وما عَمِلنا باطل فقال لهم لا تفعلوا أَكمِلوا بقيةَ عملكم وخُذُوا أجركم كاملًا فأَبَوْا وتركوا، واستأجر آخرين بعدهم فقال لهم: أَكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطتُ لهم من الأجر فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: لك ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلتَ لنا فيه، فقال لهم أَكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير فأَبَوْا، واستأجر قومًا أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثَلُهم ومثَلُ ما قبلوا من هذا النور، فقالت اليهود والنصارى ما لَنا أكثرُ عملًا وأقَلُّ عطاء، قال هل ظلمتكم من حقكم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء». اهـ.
قال ابن عاشور:
والآية تقتضي تحذير المسلمين من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم السابقة من الاختلاف في الدين أي في أصول الإسلام، فالخلاف الحاصل بين علماء الإسلام ليس اختلافًا في أصول الشريعة، فإنها إجماعية، وقد أجمعوا على أنهم يريدون تحقيقها، ولذلك اتفقت أصولهم في البحث عن مراد الله تعالى وعن سنة رسوله للاستدلال عن مقصد الشارع وتصرفاته، واتفقوا في أكثر الفروع، وإنما اختلفوا في تعيين كيفية الوصول إلى مقصد الشارع، وقد استبرءوا للدِّين فأعلنوا جميعًا أن لله تعالى حكمًا في كل مسألة، وأنه حكم واحد، وأنه كلف المجتهدين بإصابته وأن المصيب واحد، وأن مخطئه أقل ثوابًا من مصيبه، وأن التقصير في طلبه إثم. فالاختلاف الحاصل بين علمائنا اختلاف جليل المقدار موسع للأنظار.
أما لو جاء أتباعهم فانتصروا لآرائهم مع تحقق ضعف المدرك أو خطئه لقصد ترويج المذهب وإسقاط رأي الغير فذلك يشبه الاختلاف الذي شنعه الله تعالى وحذرنا منه فكونوا من مثله على حذر ولا تكونوا كمثل قول المعري:
فمجادل وصَلَ الجدالَ وقد درى ** أن الحقيقة فيه ليس كما زعَمْ

عَلِم الفتى النَّظَّار أن بصائرا ** عميتْ فكم يُخفى اليقين وكم يُعَم

اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

يعني الغيبة عن الحق جمعتهم، فلما أتتهم الرسل تباينوا على حسب ما رُزقوا من أنوار البصيرة وحُرِموها. ويقال كانوا على ما سبق لهم من الاختيار القديم، وبمجيء الرسل تهود قوم وتَنَصَّر قوم، ثم في العاقبة يُرَدُّ كل واحد إلى ما سبق له من التقدير، وإن الناس اجتمعوا كلهم في علمه سبحانه ثم تفرَّقوا في حكمه، فقوم هداهم وقوم أغواهم، وقوم حجبهم وقوم جذبهم، وقوم ربطهم بالخذلان وقوم بسطهم بالإحسان، فلا مِنْ المقبولين أمر مكتسب، ولا لمردِّ المردودين سبب، بل هو حُكْمُ بُتَّ وقضاءٌ جُزِم. اهـ.

.فائدة في تقييد الهداية بقوله تعالى: {بإذنه}:

وفي تقييد الهداية بقوله تعالى: {بإذنه} دلالة على أن هداية الله تعالى لهؤلاء المؤمنين لم تكن إلزاما منهم، وإيجابا على الله تعالى أن يهديهم لإيمانهم، فإن الله سبحانه لا يحكم عليه حاكم، ولا يوجب عليه موجب إلا ما أوجبه على نفسه، بل كانت الهداية بإذنه تعالى ولو شاء لم يأذن ولم يهد، وعلى هذا فقوله تعالى: {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} بمنزلة التعليل لقوله: {بإذنه}، والمعنى إنما هداهم الله بإذنه لأن له أن يهديهم وليس مضطرا موجبا على الهداية في مورد أحد، بل يهدي من يشاء، وقد شاء أن يهدي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. اهـ.